البدادوة يقود مطالب وطنية في لقاء مع رئيس الوزراء: رؤية صناعية، عدالة اجتماعية، وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية   |   شريك الابتكار لمؤتمر ومعرض C8 2025 الذي سيعقد تحت رعاية سمو ولي العهد   |   عزم تتصدر الأداء النيابي خلال الدورة الاولى للبرلمان   |   انطلاق رالي 《جوردان رايدرز》غداً لدعم السياحة في المثلث الذهبي برعاية زين   |   رئاسة الوزراء تعلن عن مشاريع في عمّان: جسر صويلح وقطار خفيف ومطار ماركا ومدارس ومركز رياضي ونقل المسلخ   |   الجوائز العربية… والثقافة التي تضيء أفق المستقبل   |   الصناعيون في ضيافة الملك   |   تعلن جامعة فيلادلفيا عن توفر بعثة لحاملي درجة الماجستير للحصول على درجة الدكتوراه   |   عمان الأهلية تهنئ طالبها محمود الطرايرة بفوزه بالميدالية البرونزية ببطولة العالم للتايكواندو   |   الأرصاد تحذر من الضباب الكثيف على طريقي المطار والمفرق دمشق الدولي   |   من الانقسام إلى البناء: طريق الشرق الأوسط نحو استقرارٍ وتنميةٍ مستدامة   |   تعلن جامعة فيلادلفيا عن حاجتها لتعيين أعضاء هيئة تدريس للعام الجامعي 2025/2026،   |   من المختبر إلى معصم اليد: تقنية سامسونج الأولى من نوعها لتتبع التغذية عبرGalaxy Watch   |   منتجع وسبا ماريوت البحر الميت يحصد لقب أفضل منتجع شاطئي في الأردن في حفل توزيع جوائز السفر العالمية 2025   |   ابتكار وتميّز في فعالية PU IEEE Day 2025 بجامعة فيلادلفيا   |   أمانة عمّان الكبرى تطلق مسار جديد لخدمة الباص السريع   |   شقيق الزميل عمر الخرابشه في ذمة الله   |   العربية لحماية الطبيعة تبدأ المرحلة الثانية من مشروع 《إحياء مزارع غزة》   |   يوم خيري لمجموعة سيدات هارلي الجمعة المقبلة لدعم مصابات السرطان بقطاع غزة   |   مؤتمر صحفي للإعلان عن تفاصيل فعالية معرض ومؤتمر التقدم والابتكار والتكنولوجيا بالأمن السيبراني برعاية سمو ولي العهد   |  

التاريخ بين جميد المنسف ونكهة الراوي


التاريخ بين جميد المنسف ونكهة الراوي
الكاتب - الدكتور نضال المجالي

الدكتور نضال المجالي

 

قبل اسبوع، وجدت نفسي في جلسة عامرة على منسف، اجتمع فيها نخبة من الأصدقاء والمعارف بضيافة “معزب بريشي حشم”. يومها جلس بيننا شخصية كركية مرموقة في القانون، علماً ومنصباً، وكنت أظن أن الحوار سيتجه نحو قضايا القضاء والتشريعات. لكن المفاجأة أن الرجل، وما أن بدأ الكلام، حتى تحولت الجلسة إلى درس عميق في التاريخ والأنساب والعصور، بأسماء وتفاصيل لم نعلمها او يتم تدريسها عليّ وعلى الحضور حسب كلامهم قط.

 

اعترفت بيني وبين نفسي – وربما على مسمع من البعض – أنني في مقابل ثقافته “قارئ على قد اليد”. صحيح أنني أقرأ هنا وهناك، واحاول ان احلل واضع بصمتي حتى لو مقترحا، لكن ما سمعته تلك الليلة جعلني أدرك أن بعض الرواة، مهما كان اختصاصهم بعيدا عن التاريخ او حتى مستقبلنا الضبابي، يمتلكون قدرة ووعي وثقة على نسج بناء ونقل رواية صادقة وصريحة تفوق ما نجده في كتب مطبوعة أو مقالات مزخرفة او حصص مدرسية وجامعية او حتى مقابلات تلفزيونية.

 

هنا تذكرت كم مرة استضفنا أو شاهدنا من يقدَّم على أنه “خبير” او “مؤرخ”، فقط لأنه قرأ كتاباً حديث الطباعة، او صديقا لمدير محطة او برنامج مسجل، بينما يغيب عن الشاشات واللقاءات من يملك الرواية الحقيقية كصديقنا القانوني. النتيجة أن التاريخ عند كثير ممن اطلوا عليا كان يُنقل مبتوراً، أو يُعاد تشكيله ليناسب هوى الراوي. بعضهم يتعصب لمكانه أو قبيلته، فيحوّل الحكاية إلى قصيدة مدح، وآخر يختصر أحداثاً كبرى في جملة سطحية. والأسوأ أن هذه الأخطاء قد تتحول إلى “روايات رسمية”، فنعلّم أبناءنا نصف الحقيقة، ونكبر على ذاكرة ناقصة.

 

ولكم أن تتخيلوا كيف تنقلب الأمور إلى مهزلة، حين يخرج أحدهم ليؤكد أن معركة خاسرة كانت “نصراً مؤزراً”، ويثقلنا آخر بادعائه أن قبيلته هي أول من اخترع العجلة والإنترنت معاً! وآخر نعلم انه نال افضل الفرص والامتيازات يخطب بالعامة انه تقلد المنصب بمنافسة بعد ان تقدم بطلب توظيف، وشهدت يوما من اقسم اليمين تكليفا وهو يتغنى بأمجاد والده وعشيرته انها من صنعت مستقبلنا وأمننا، وعلمت لاحقا ان هناك من قاد مركبته في العودة لمنزله لضمان سلامة وصوله ولكم ان تحددوا السبب، واخرهم يعتلي موقعا كان يوما اسمه في سجل قضية يخصها، ثم نجد من يصفق ويطبل لهم جميعا، فيما يتناقلونه من أخبار، وكأننا في مسرحية هزلية لا في سجل للتاريخ، ونسوا “ان حارتنا ضيقة”.

 

في المقابل، حين تختار الراوي المثقف الصريح المتابع والمتتبع، ترى الفرق. فلو سمعت لخبرة وتاريخ البحر مثلا في العقبة من صياد يجلس فوق “الدونقي” ستراه يصف لك البحر بمصطلحاته الدقيقة بحرفية وعزف بكلمات لا تسمعه في احاديث وتفاخر غيره نعلم جميعا انه تعلم السباحة بمسبح في أندية “عمان”، ولو جلست بقرب مسنّ كركي ليروي لك عن تاريخ رجال فيها او عن الزراعة بأدواتها ومواسمها، او العادات والعشائر وانسابها فستشعر أن الرواية ليست فقط علماً بل حياة. وكنت قبلها جلست في وادي السير مع “ابو خضرة” مزارع يربي النحل، يتحدث بعمق عن التغير المناخي بحكم تجربته بإنتاج العسل، هؤلاء هم الرواة الذين يضيفون على الكتاب لا يكررونه.

 

تجربتي تلك على “سدر” المنسف علمتني درساً بليغاً: صدق الرواية ليس حكراً على المؤرخين ولا على الأكاديميين، وعلى ضيوف الشاشات حديثا، بل على من عاش بعمق، وان لم يكن من ذات العصر فهو من عاين، ودقق، وغاص، ونقل بأمانة وتشويق. فلو أحسنا اختيار رواة قصصنا وتاريخنا – ومثلهم مسؤولينا-، لما وقعنا في فخاخ النقص والتعصب، ولما ضحكنا – بسخرية مُرّة – على نتائج خياراتنا الخاطئة.

 

ولهذا فأن صدق الرواية ضمانة لصدق الهوية. ومن لم يحسن اختيار راويه ويوثق تاريخه بصدق، فليستعد لأن يحمل على كتفيه تاريخاً ناقصاً كالمنسف بلا جميد.