الهزيمة الحقّة..

الهزيمة الحقّة..
هالة جمال سلوم
يشهد العالم صراعات ونزاعات مستمرة، تتصاعد وتيرتها بشكل مقلق عاماً بعد عام، ظاهرة معقدة بل وتزداد تعقيداً نظراً لتزايد الأطماع وتحالف دول ضد أخرى، ولكثرة انتشار الطوائف والعقائد المختلفة، والتطور التكنولوجي الواسع والدقيق الذي أسهم في تصنيع وتطوير الأسلحة، فتنبع دوافع الحروب وتتجدد النزاعات، إما للسيطرة السياسية وامتداد النفوذ واتباع سياسة البقاء للأقوى، أو لنزاعات إقليمية متجذرة كنزاع على الحدود أو التنافس على الأراضي، أو للسيطرة على الموارد الطبيعة كالنفط والمعادن والمياه، أو قد يكون نزاع ديني أو عرقي أو تاريخي منذ الماضي استمرت أحقاده عبر الزمن ويجدد لأجله نيران الحرب، فيربح طرف ويهزم آخر - بالرغم من الثمن الذي يدفعه كلا الطرفين من خسائر بشرية وخسائر مادية ومعنوية وإقتصادية وسياسية- إلا أنه وفي بروتوكول الحرب، يجب أن يكون هناك فائز وخاسر!
ولكن، سرعان ما تتغير مجريات العمل السياسي، وتعود القوى السياسية لتتشكل من جديد، وتستعيد الدول الخاسرة قواها، إما بتحالف مع طرف، أو باتباع استراتيجيات جديدة، فتنقلب النتيجة، والخاسر قد يكسب ويعود بشكل أقوى، والفائز قد يعود القهقرى، فكل السيناريوهات في - العالم السياسي- متوقعة، فلا انتصار ثابت، ولا هزيمة مستمرة ، ولا رهان في ذلك.
أما الهزيمة التي تشكل الخطر الأكبر ولها الأثر الأعمق على المجتمعات برمتها، التي وإن ألقت بظلالها على دولة أو أمة، فسترديها عاجزة، خصبة لأي استعمار واستيلاء، وستكون عواقبها أعمق وأدهى وأمرّ من الخسارة العسكرية والسياسية والاقتصادية، إنها الهزيمة الثقافية، فحين يفقد الأفراد هويتهم الثقافية والوطنية، وينتمون لثقافات أجنبية أو نمط غربي – دون فهم – ويتجردون بل ويتبرؤون من عاداتهم وتقاليدهم الأصيلة، فتطغى ثقافات معينة على ثقافتهم، فتُطمس وتندثر القيم، ويفقد المجتمع الأساس الذي يشكل جوهر النسيج الاجتماعي والثقافي، فتذهب ريح الأمة، وسيسهل هزيمتها سياسياً واقتصادياً، إنها هي الهزيمة الحقّة!
يعتبر بناء القوة الثقافية عملية شائكة ومعقدة، ويحتاج إلى وقت أطول من إعادة بناء قوة عسكرية، فالبناء الثقافي يتطلب تكاتف جميع أركان المجتمع، إبتداءً من التعليم، بمناهج تصنع نهضة حضارية وجيل واعٍ ومسؤول، إلى التوعية، بغرس قيم الإنتماء والتمسك بالعادات والموروث الحضاري الأصيل، وصولاً إلى بناء بنية ثقافية منيعة، فالمتانة الثقافية والحصانة الفكرية هي الدرع الأول لحماية المجتمعات والأمم من خطر الحروب، والغزو والإستيلاء، فقوة الدولة عسكرياً لا يحميها من الإستعمار الفكري الذي هو أشد خطورة أسرع انتشاراً وأشد عمقاً.
نحن أمة فتية، معاصرة، قوية، لديها دين واحد، ولغة أصيلة، وأعراف وتقاليد متجذرة، وهذه نقاط قوة ومناعة وتصدي لأي تدهور فكري، لننهض بغد مشرق، ولنصنع نواة صالحة لتُمكّن في الأرض، وتكمل حمل الأمانة العظيمة، والمسؤولية الكبيرة على أتم وجه.
ومن الله السّلام ..