من قتل شلهوب
من قتل شلهوب
كان أرنب صغير يركض بجنون بين الأشجار، يتقافز من صخرة إلى أخرى، بينما نسر ضخم يطارده من أعلى، كأنه طائرة مُسيّرة ترصد كل حركة له وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض. قلبه يخفق، أنفاسه تتلاحق، وكل قفزة تعيد له شريط حياته: طفولته وهو يقضم الجزر مع إخوته، ولهوه بين المروج، والطمأنينة يوم كان الأسد يحرس الغابة ويمنع الجوارح من دخولها.
لكن ركضه لم يكن في الغابة التي عرفها من قبل. فقد صارت الأرض غريبة، مشاهد مرعبة تتلاحق أمام عينيه:
ذئاب تعوي بجنون على أطراف التلال.
ضباع تقهقه وتتصارع على بقايا فرائس.
سيارات تصدر ضجيجًا غريبًا كوحوش معدنية، تضيء بمصابيحها الحمراء والبيضاء كأنها عيون متوحشة.
آليات ضخمة تقطع الأشجار وتقتلع الجذور، أصوات مناشيرها تمزّق سكون الغابة.
بشر كثيرون يتحركون في صفوف، خوذهم تلمع، وجرافاتهم تلتهم التراب.
مبانٍ عالية ترتفع مكان الأشجار، نوافذها كعيون زجاجية تحدّق في كل شيء.
وسط هذه الفوضى، ارتبك الأرنب أكثر، تسارعت خطواته، وفجأة وقعت عيناه على مشهد أوقفه في مكانه: جثة أرنب آخر ممددة على التراب، بلا حراك. اقترب بخوف، وتعرف عليه فورًا: إنه شلهوب.
تجمدت قدماه عن الحركة، وسأل نفسه بدهشة وذعر:
“من قتل شلهوب؟”
في تلك اللحظة، لم يمنحه القدر فرصة للجواب. انقض النسر عليه من السماء، غرز مخالبه في جسده الصغير، وابتلعه في لحظة واحدة.
لكن قصة شلهوب لم تبدأ عند موته… بل قبل ذلك بوقت طويل.
⸻
كان شلهوب هو الأرنب الذي نشر الخبر الأول: “الأسد صار نباتيًا.” تلقى الهمسة من ضبع هزيل، لكنه قدّمها كما لو كان صحفيًا محترفًا. وقف على صخرة عالية، رفع أذنيه كهوائيين، وصرخ:
“خبر عاجل: الأسد لم يعد ملك الغابة.”
الخبر انتشر كالنار في الهشيم:
الغزلان قفزت ترقص بين الأشجار، لكن سرعان ما ستدفع الثمن.
الزرافات رفعت أعناقها كأبراج عالية، قبل أن تبيع كرامتها وتهاجر إلى السيرك.
الأرانب الصغيرة خرجت من جحورها تهتف وتضحك، لكنها لم تعلم أن الضباع كانت تترصدها من بعيد.
الذئاب رفعت أنوفها للسماء، عواءها امتزج مع هدير السيارات، والضباع ضحكت حتى بدت كأنها جيوش من المهرجين القتلة.
الحمار الوحشي الذي كان يعايش الغزلان بسلام، انقض فجأة وذوّب أنيابه في لحمها، خطوطه السوداء والبيضاء تلطخت بالدم الأحمر، والغزلان المذعورة هربت بعيدًا إلى الصحراء، حيث الشمس لاهبة والرمال ملتهبة، وماتت عطشًا وجوعًا، غريبة في أرض لا تعرفها.
الزرافات دخلت أقفاص السيرك. مشهدها وهي تنحني أمام التصفيق البارد للغرباء كان أفظع من أي موت. أعناقها التي كانت تعانق السحاب صارت مجرد دُمية في عروض بهلوانية.
الأغنام انقسمت مثل أوراق مبعثرة في الريح: نصف احتمى بالذئاب، ونصف احتمى بالضباع.
الفيل الضخم وقف يحاول أن يحرس الغابة، لكن صوته غطّى عليه ضجيج الآليات، وخطواته الثقيلة بدت كأنها بطيئة أمام الجرافات.
ثم جاء دور الحمير الرمادية.
تخاصموا طويلًا، نهيقهم يملأ المكان كأبواق متنافرة، حتى اتفقوا أخيرًا على حمار كان يعمل في مزرعة رجل في بولندا. قالوا إنه يفهم لغة الإنسان، وربما يجلب لهم الحكمة. جلس مكان الأسد، وبدأ يخطب بصوت غليظ:
“لا تستهينوا بالأرانب… فالبعوضة تُدمي مقلة الأسد.”
ضحكت الضباع بحرارة، ثم بدأ الحمار الجديد يقبض على الأرانب واحدًا واحدًا ويقدّمهم للضباع.
كانت الأرانب التي صدّقت شلهوب بالأمس تتحول اليوم إلى وجبات دسمة على موائد الخيانة.
ولم يتأخر صاحب الحمار البولندي. دخل الغابة بخوذته وآلياته، نظر حوله وقال: “هذه لي.” فأخذ الماء، قطع الأشجار، حوّل المروج إلى مصانع والأنهار إلى إسفلت. ارتفعت البنايات مكان الأعشاش، وامتلأ الجو بدخان أسود حجَبَ الشمس.
وحدها القرود، من أعالي الأشجار الباقية، صرخت بأصوات حادة:
“أيها الحمقى! الأسد لم يمت! إنها إشاعة إعلامية!”
لكن أحدًا لم يسمع، فقد غطى النهيق والعواء وضجيج الجرافات على كل شيء.
⸻
وعندما بكت الحيوانات على مصيرها كان الأوان قد فات.
لم تسقط الغابة بسيف، ولا بفأس، ولا بدماء حرب، بل بإشاعة خرجت من فم أرنب اسمه شلهوب، ثم تحولت عبر الإعلام إلى حقيقة صدّقها الجميع.
لقد كان شلهوب الجاني وهو الضحية.
