دموع ويقين
دموع ويقين
الجزء الأول
حين يكون الانحياز انتصارًا
بسم الله الرحمن الرحيم
الغبار يملأ السماء. الدموع تختلط بتراب الميدان. ثلاثة آلاف يقفون أمام مائتي ألف. لا تكافؤ. لا منطق. لا فرصة. ومع ذلك لم يكن المشهد استسلامًا… بل بداية ملحمة ستُروى طويلًا.
زيد يسقط، فتتساقط معه أولى الرايات.
جعفر يستشهد مقطّع اليدين، ثابت القلب، كأنه يقول: أقدّم روحي ودمي، ولا أسقط الراية… كأنما يكتب قصيدة خالدة بدمه.
ثم ابن رواحة، شاعر المعركة، الذي جعل من يقينه نشيدًا يرافقه حتى آخر لحظة.
هؤلاء الثلاثة قدّموا يقينهم في صورة التضحية. يقينٌ يرى ما وراء الموت حياةً أبدية، فيسلّم النفس مطمئنة.
لكن حين خيّم الصمت للحظة، وبدا وكأن كل شيء ينهار، تحرّك رجل واحد يحمل الراية كأنه يحمل قلوب الجميع. خالد ابن الوليد.
وقف يتأمل القادة الثلاثة والجنود المرهقين. في داخله صراع بين القلب والعقل: القلب يدعوه أن يلتحق بركب الشهداء، والعقل يذكّره أن فناء الجيش سيترك المدينة الناشئة عارية أمام الأخطار، محاطة بالأعداء والمتربصين من كل صوب. عندها اختار يقين العقل والحكمة: أن يحفظ الأمة للغد.
أعاد سيف الله المسلول ترتيب الصفوف، لا كمن يقاتل فقط، بل كمن يرسم لوحة خالدة بوعيٍ وحزم. قدّم المؤخرة، وأخّر المقدمة، وبدّل الميمنة بالميسرة، حتى خُيّل للروم أن مددًا جديدًا قد جاء. وفي لحظة الارتباك، قاد انسحابًا منظمًا أعاد به الجيش سالمًا.
وعندما عاد المسلمون إلى المدينة، قيل لهم: “فررتم.” لكن ردّه كان كالسيف بالمقولة الشهيرة:
“لقد انحاز المسلمون، وما هو بالفرار.”
فالفرار هروب مذعور، أما الانحياز فهو انسحاب منظم يُحفظ به الجيش وتُصان به الأمة.
الإيمان واحد، لكنه يتجلّى تارةً في دمٍ يُراق، وتارةً في حكمةٍ تحفظ الأمة. يقين الشهداء كان في الفداء، ويقين القائد كان في البقاء.
وبعد سنوات قليلة، يعود الغبار، لكن على أرض أخرى. هذه المرة في اليرموك. آلاف مؤلفة من الروم تصطف، والجيش الإسلامي أقل عددًا. يقف سيف الله المسلول على ربوة عالية، يبتسم في نفسه ويقول عن خصومه:
“إنهم قوم لا دراية لهم بالحرب.”
هو القائد نفسه، ونفس العدو الذي يراهن على الكثرة والجبروت. لكن صورته تغيّرت مع تبدّل الظرف. في مؤتة كان يقينه يقين الحفظ، لأن بقاء الجيش حياة للإسلام الناشئ. أما في اليرموك، فقد صار يقينه يقين الفداء؛ يقين من يرى أن الدماء إذا سالت هنا فلن تذهب هدرًا، بل ستفتح باب النصر وتُثبّت أركان الأمة إلى الأبد.
إذن لم يكن الانحياز نقصًا في الثقة، ولا الهجوم زيادة في الإيمان، بل كلاهما وجهان لليقين نفسه… يختلف شكلهما باختلاف ظرف المعركة. فالحليم إذا غضب… لا يغضب عبثًا، بل يغضب ليكتب التاريخ.
في الميدان، قد يرى البعض أن النصر لا يُكتب إلا بالدماء والصرخات، بينما يرى آخرون أن الانتصار يُصان بالحكمة وضبط النفس. بين الغضب الشعبي وصبر القادة، يظل اليقين واحدًا: أن القضية لا تموت، وأن الأمة لا تنكسر، وأن اللحظة المناسبة – متى جاءت – ستكون فصلًا آخر من التاريخ يُكتب بالدم والعقل معًا.
يتبع في الجزء الثاني…
… سنرى سيفًا آخر. قائد يملك أعتى الأسلحة النووية، ومع ذلك يواجه سخرية خصومه الذين وصفوه بأنه نمر من ورق. لكنه يختار الصبر وضبط النفس، مدركًا أن الانفعال قد يجرّ الدمار على شعبه، وربما على العالم بأسره. وهنا تبدأ الحكاية مع الحرب الروسية الأوكرانية… حيث تتقاطع القوة بالحكمة، وتُختبر حقيقة الصبر أمام الاستفزاز.
