ما أنا بقارئ
ما أنا بقارئ
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: من لا يقرأ التاريخ يكتبه.
تحيّة طيّبة وبعد،
الأحد الدامي… أو الأحد الأسود.
هيا بنا نقرأ، نفهم، وندرك.
في الثاني والعشرين من يناير عام 1905، خرجت الجماهير في روسيا تطالب بالخبز والعدالة والسلام.
خرجوا حاملين الأيقونات والصلبان، لا الحجارة والسيوف.
لكنّ الرصاص كان أسرع من الدعاء، وسقط الأبرياء قبل أن يفهموا من أطلق النار.
الثلج يغطي الشوارع ككفنٍ أبيض.
تتساقط قطرات دم بلون اسود
تظهر الأيقونات والصليب في أيدي المتظاهرين،
نساءٌ يرفعن صورًا، رجالٌ يهمسون بصلوات،
أطفالٌ تتسع عيونهم دهشةً.
تعلو الهتافات شيئًا فشيئًا — عدالة… خبز… سلام…
تمتزج أصوات التراتيل بقرع أجراسٍ بعيدة،
ثم تتسارع دقات القلب في الخفاء.
الدهشة تقترب من وجه القيصر،
نظرته تتنقّل بين الجموع،
يُصغي للأصوات كما لو كانت موسيقى لا يفهم لحنها.
وبين الحشود، عيونٌ غريبة تلمع، تهتف بالثورة وتهمس بالفتنة.
وفجأة — صوت طلقة.
تتجمّد الصورة للحظة،
تسقط اللافتة من يد امرأةٍ عجوز،
ويتحوّل المشهد إلى صمتٍ كثيف،
كأنّ صفحات التاريخ ليست سوى بضع صفحاتٍ مكرّرة،
نُسخت بخطٍّ جديد.
لم يكن القيصر يواجه شعبه، بل كان يواجه خطةً أكبر منه ومنهم.
خطة كُتبت بحروفٍ خفية على رقعة شطرنجٍ دولية، تتحرّك فيها : الشعوب بيادق، والقيصر هدف ، واللاعب الحقيقي لا يظهر أبدًا.
ومن المضحك المبكي أن من نادى باسم الكنيسة وأشعل الثورة باسم الإيمان،
كان أول ما فعله بعد الانتصار أن هدم الكنائس،
وألغى كل مظاهر العبادة،
وأعدم العلماء والمفكّرين،
ونفى من تبقّى منهم إلى المنافي البعيدة.
تحوّلت شعارات الحرية إلى قيودٍ جديدة،
وصار الصمت واجبًا، والعبادة جريمة.
منذ تلك اللحظة، بدأ التاريخ ينسخ نفسه
( كوبي بيست )من ثورةٍ إلى أخرى، ومن بلدٍ إلى بلد، بنفس السيناريو
هتاف، دم،، فوضى .
تُقتل القيم قبل أن تُقتل الجيوش، وتُباد الأخلاق باسم الحرية، ويُباع الوطن بأثمانٍ رخيصة.
الإعلام يكمّل المشهد.
لم تعد البنادق وحدها تقتل، بل الكاميرات أيضًا.
زاوية واحدة تُغيّر مصير أمة، وشاشة واحدة تُقلب البطل إلى طاغية، والقاتل إلى شهيد.
أما النشطاء ، فهم ممثّلو الصفّ الثاني في المسرحية ،يتقنون التمثيل أكثر مما يتقنون الكذب ،
ويعيشون على فتات التمويل الخفيّ لا على الخبز و الزيت .
فصاروا أدواتٍ في صراعات لا يدركون أبعادها.
تتكرّر القصة في كلّ مكان، بنفس الحبكة:
الشعوب تخرج باسم الكرامة، فتفقد كرامتها.
تهتف باسم العدالة، فتُسلب حريتها.
تبحث عن الخلاص، فتقع في فخٍّ جديدٍ من صنع اليد نفسها، اليد التي تحرّك البيادق .
لم يعُد الرصاص وحده يقتل، ولا المدافع تُسقط المدن.
اليوم تُسقطها الكلمة المصوَّرة.
صورة واحدة تُفبرك في غرفةٍ مظلمة، فتُشعل ثورة في بلدٍ لم يبدأ فيها شيء.
.
صوتٌ مُعدَّل بالذكاء الاصطناعي يُغيّر اتجاه الرأي العام،
ومشهدٌ مقتطع من سياقه يصنع بطلاً أو خائناً في دقائق.
بين عام 1905 و2025، لم يتغيّر شيء سوى نوع الكاميرا.
أما اللعبة فهي ذاتها:
المشهد يُخرجه الآخرون، والدم يُسفك باسم الحرية،
وما زالت الشعوب تُصدق وهي تُقاد إلى المصير ذاته، ولكن هذه المرة عبر الشاشات.
في النهاية، يعود السؤال كما في البداية:
من أطلق النار؟
ومن كتب السيناريو؟
إن كنت تقرأ هذه الكلمات في أمنٍ وأمان،
فلا تكتفِ بالفهم، بل بالإدراك فعلى الاغلب انه لم يفت الاوان بعد .
لأن من لا يُدرك في الوقت المناسب،
سيجد نفسه سطرًا آخر في رواية جديدة تُكتب بعنوان:
ما أنا بقارئ،
.حين يكون الجهل اختيارًا لا عذرًا.
و في النهاية :
عزيزي القارئ نسال سؤالا مهماً :
من يكتب التاريخ؟
أهو من عاصره، أم من خطّط له .
فحين تسمع كلمة اقرأ:
لا تقل ما انا بقارئ .
