أكون أو من أكون
أكون أو من أكون
هذا نص أدبي رمزي يحاول أن يرسم رحلة الإنسان منذ بدايته الأولى وحتى نهايته.
هو تأمل يجمع بين مشاهد من العلم والفلسفة والدين، ليطرح أسئلة قديمة جديدة عن الأنانية، والمبادئ، والزمن، والمصير.
النص لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يترك القارئ أمام نفسه ليتساءل:
هل نحن نعيش حقًا… أم أننا نكرر نفس السباق الأول بطريقة مختلفة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
يسبح بسرعة جنونية… يلتفت خلفه: هل ما زال في المقدمة؟
في البداية لم تكن هناك مبادئ ولا شعارات. لم يكن هناك دستور ولا قوانين دولية. لم يكن هناك عدل ولا رحمة ولا ديمقراطية. ولا أمم متحدة ولا دول عظمى. كان هناك سباق واحد، مجنون، في ممر ضيق. ملايين يركضون بذيل قصير ووهم عظيم بأنهم محور الوجود. كل واحد يظن أن المجد ينتظره، أن العالم بحاجة إليه، أن الباب لن يُفتح إلا بقدومه. لكن الباب كان واحدًا… والمصير: فائز واحد.
الإخوة يتساقطون واحدًا تلو الآخر.
هذا ضلّ الاتجاه، وذهب يبحث عن باب خلفي كأي متسلق يبحث عن “فرصة”.
ذاك اصطدم بجدار صلب، كأنه أول معترض في التاريخ.
آخر تعب من الركض، فقرر أن يستريح قليلًا… ولم يستفق بعدها.
أما الفائز؟ لم يكن أذكى ولا أنقى ولا أرحم… بل أكثر أنانية وأسرع في إغلاق باب البويضة خلفه. ومنذ تلك اللحظة، وُسم على جبينه أول شعار في التاريخ: أنه سيكون… أو لن يكون.
كبر الإنسان، فارتدى معطف الأرقام والمعادلات.
صار فيبوناتشي في نموّه: خلية، اثنتان، أربع، ثمانٍ… متتالية ذهبية تقول له: “انظر، أنت نسخة عن هندسة الكون.”
وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر.
وصار تسلا في اهتزازه: 3 و6 و9… مفاتيح كونية تتحكم بالمجرّات.
سبح بخطوات محسوبة: ثلاث ضربات تدفعه للأمام، ستّ التفافات تحفظ توازنه، وتسع اهتزازات كونية كأنها توقّع له جواز المرور… يركض لا بعشوائية، بل على نغمة سرّ تسلا، السرّ الذي لو فُهم لفُهمت به أسرار الكون.
وصار 12 في دوراته: شهور وأبراج وساعات. كل شيء حوله منتظم كأنه سيمفونية إلهية، بينما حياته اليومية مليئة بالفوضى والارتجال.
وهكذا حاول الإنسان أن يقرأ سره في لغة الأرقام، بينما كانت الحقيقة مكتوبة في كتاب أزلي لا يتبدل.
لكن، ورغم هذا البريق الرقمي، ظل يحمل في داخله نفس الصرخة القديمة: “أنا أولًا… ومن بعدي الطوفان.”
كل شيء يفعله لاحقًا كان إعادة تمثيل لذلك المشهد الأول: أنانية بيولوجية تحوّلت إلى فلسفة وجودية.
حتى الزمن، الذي يتفاخر به، لم يكن سوى معادلة متبدلة.
حياته كلها ليست أكثر من ثوانٍ متراكمة،
تتجمّع لتصير دقائق، ثم ساعات، ثم أعوامًا،
وما هي في حقيقتها إلا ومضات بين ميلادٍ ورحيل.
يوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعدّ،
ويوم آخر خمسون ألفًا، كأن الدقائق تتمدّد كالسراب.
وثلاث مئة شمسية لا تعدل إلا ثلاثمئة وتسع قمرية،
كأن الزمن يبدّل أثوابه ليضلّل العيون،
مرة بثوب الشمس، ومرة بكساء القمر.
ومع ذلك، يقيم أعياد ميلاده كل عام،
كأنه دافنشي يضع ضربة فرشاة أخيرة في لوحة الموناليزا،
ويحتفل بإنجازاته الصغيرة وكأنها ستكتب في سجل الأبدية.
أما المبادئ… فهي البضاعة الأرخص.
يتغنّى بالعدالة وهو في مأمن، ويطالب بالرحمة وهو بعيد عن النار، ويصرخ بالحرية وهو يقيّد غيره.
لكن حين يُمسّ جرحه، ينقلب بسرعة مذهلة:
“الديّة عند الكرام الاعتذار”، يقولها وهو يبتسم.
ثم عند أول خسارة شخصية، يغيّر النغمة: “لأقتلنّ به عدد الحصى والرمال.”
وهنا يتقدّم صوت آخر… ليس إنسانًا، بل الشيطان نفسه، يحتجّ بعقلانية باردة:
“أنا لم أسرق، لم أزنِ، لم أقتل، لم أخن الأمانة… كل ما فعلته أنني رفضت السجود لغير الله. فهل كانت معصيتي أعظم من معاصيك، أيها الإنسان؟”
ثم يسكت قليلًا، كأنه يتردّد لأول مرة منذ خُلق، قبل أن يهمس بسؤال يهزّ الأركان:
“ولو قررت أن أتوب… هل تتسع رحمة الله لي ويقبل توبتي؟”
وينسحب صوته في الفراغ، تاركًا السؤال معلّقًا بلا جواب…
وكأن الجواب نفسه امتحانٌ للإنسان أكثر مما هو امتحانٌ للشيطان.
وهكذا تتبدّل المبادئ كما تتبدل أسعار السوق: لحظة بلحظة.
في المجتمع، يتكرر المشهد ذاته:
موظف يغلق الباب على زملائه لينال الترقية وحده.
تاجر يفتح متجره ويقسم أنه “يخدم الناس”، بينما يرفع الأسعار عند أول أزمة.
جار يبتسم لك في الشارع، ثم يغلق بابه بالمفتاح مرتين حتى لا يسمع أنينك.
كلها ليست إلا نسخًا متأخرة عن تلك اللحظة الأولى… حين أغلق الإنسان الباب خلفه.
ثم تأتي الدورة الأخيرة.
تنطوي السماوات كما تنطوي الملفات،
تتفكك النجوم كما تتفكك التحالفات،
ويُقام المشهد الأكبر، فلا يبقى شيء من كل اللافتات والشعارات.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
عندها يهرب المرء من أقرب الناس إليه:
“يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه.”
ويعلو صوته المندهش: “من بعثنا من مرقدنا هذا؟”،
وكأنه لم يكن يعلم أن الناس نيام، فإذا ماتوا استفاقوا.
هناك، عند الصراط، تتكرر القصة.
جسر أدق من الشعرة وأحد من السيف.
من تحته نار تتلظى، ومن فوقه نور يلمع.
الكل يحاول العبور: هذا يمرّ كالبرق، ذاك يتعثّر ويسقط، آخر يزحف كأنه يكرر سباقه الأول.
والإنسان يتذكر في تلك اللحظة: لقد فعلها من قبل… يوم دخل أول مرة، وأغلق الباب.
تسقط الأقنعة كما تسقط الأوراق في الخريف.
تتهاوى الشعارات كما تهاوت كل الوعود.
تذوب المزايدات كما ذاب الإخوة في السباق الأول.
ولا يبقى إلا الصوت القديم ذاته، الصوت الذي انطلق في الظلام:
أكون أو لا أكون.
فهل كنت تعلم أنك على قيد الحياة… فقط لأنك أول من أغلق الباب؟
