وبشِّر الصابرين
وبشِّر الصابرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: غربة و دموع
الله عز وجل يذكّرنا بأن الدنيا ليست حلوة دائمًا:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
فالنقص جزء من الامتحان، لكن البركة هي الجائزة لمن يصبر ويتّقي.
قصة أيُّوب الذي هرب من الفقر… فوجد الحقيقة على رصيف نيويورك
كان أيُّوب يتمشّى في شوارع نيويورك.
سماءٌ ملبّدة، وريح باردة تقصّ العظم،
وأصوات السيارات تعزف في الهواء صخبًا لا يرحم.
لكن داخل رأسه… كان هناك ضجيج أعلى.
أصوات أهله تتداخل مع هدير الشوارع:
ضحكات أصدقائه، وصوت أمه وهي تقول:
دير بالك على حالك يا يمّه… الدنيا برا مش سهلة. الله يحميك يا ابني.
وما إن ابتعد عنها… حتى كانت دموعها تسقي وجنتيها على فراقه.
اشتعل شيء في صدره.
قال أيوب لنفسه وهو يحدّق في الأرصفة المبتلّة:
تركتُ الأردن… تركتُ أهلي…
استسلمتُ بسرعة…
يا ليتني صبرت قليلًا…
الله يقول: إن الله مع الصابرين…
وأنا لم أكن من الصابرين.
وفجأة… انكسر الضجيج.
كأن المدينة حَبست أنفاسها.
جاء صوتٌ خافت، لكنه قريب… وقريب جدًا من قلبه:
أنت عربي؟
السلام عليكم…
لو سمحت… هل تساعدني بنصف دولار؟
أنا من يومين ما أكلت.
التفت أيوب بسرعة.
رجل أسمر البشرة، ملتحٍ، يجلس على الرصيف، ملابسه ممزقة،
لكن في وجهه نور لا يشبه المتشردين.
قال أيوب بحذر:
وعليكم السلام… أنت مسلم؟
ابتسم الرجل ابتسامة فيها حكمة ووجع معًا:
نعم يا أخي… اسمي جَوّاد.
مسلم… من أصول إفريقية…
وغريب في هذه الدنيا.
جلس أيوب بجانبه دون تفكير، كأن رجليه أطاعتا نداءً خفيًا.
سأله بصوت مدهوش:
لكن كيف وصلت إلى هنا؟ أنت في أمريكا…
وتنام على الرصيف!!!؟
المفروض الحياة هون أفضل!
ضحك جواد ضحكة قصيرة حزينة:
يا بني… الحياة ما إلها علاقة بالمكان.
الله يقول:
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾
يعني رزقك مش في أمريكا، ولا في الأردن، ولا في أوروبا…
رزقك فوق… في السماء.
ثم رفع إصبعه إلى السماء وقال:
﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾
وأضاف موجّهًا كلامه لأيوب:
مثل ما أنت تحكي الآن… رزقك حق… ووعد الله حق.
انخفضت نظرات أيوب نحو الأرض، بينما تابع جواد:
كنت أملك بيتًا… وأمًا وأبًا يرضيان بي…
لكنني كنت عاقًّا لوالديَّ.
كنت قاسيًا، لئيمًا، لا أشكر أحدًا…
والنبي ﷺ قال:
«من لا يشكر الناس لا يشكر الله.»
فلما لم أشكر… نزع الله البركة من عمري.
تنهد جواد وقال:
الله وعد:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾
بس أنا ما اتقيت الله…
كيف بده يفتح لي أبواب رزق؟
وبالمقابل… الشيطان كل يوم يهمس لي:
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾
فآمنت له… وضيّعت نفسي.
وأضاف جواد بصوت حزين لكنه ثابت:
ويصف الله الإنسان فيقول:
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ﴾
الإنسان يجحد… وينسى… ثم يلوم غيره.
اهتز قلب أيوب.
تمتم:
وأنا… فعلتُ مثلُك…
هربت قبل ما أصبر…
الله يقول: إن الله مع الصابرين…
وأنا كنتُ مستعجل على كل شيء.
ربّت جواد على كتفه وقال:
الصبر رزق يا بني…
والنبي ﷺ قال:
من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا.
يا ليتني فهمت هذا الحديث يومًا…
لم يستطع أيوب منع دموعه وقال بصوت مكسور:
لو كنت أعرف هذا من قبل…
لبقيت أخدم أهلي وبلدي…
هربت أبحث عن رزق في أمريكا…
وها أنا أتعلم من رجل مشرّد…
أن رزقي كان بين يدي… لا في الدولة التي تركتها.
ابتسم جواد ومسح دموعه وقال:
يا بني…
الفقر مش في الجيوب… الفقر في القلوب.
نهض أيوب وهو يردد في قلبه:
حقًّا… وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
ثم قال لنفسه:
طلبتُ من بلدي الكثير…
وأنا لم أقدّم له شيئًا سوى الشكوى.
